بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 3 فبراير 2023

أحبكِ فعلاً (قصة قصيرة بقلم // محمد عمار ياسين)

أحبكِ فعلاً
((قصة قصيرة - بقلم // محمد عمار ياسين))

((1))

هو : اشتقتلك ، وين هالغيبة؟ 
هي : بس اشتقتلي؟ . 
- اشتقتلك وبحبك كتير كمان . 
 - بس؟
لم يكن يدري هل يشبعها أكثر بالكلمات المعسولة ، وعبارات الحب ، أم يظل صامتا ليريها حبه بالفعل لا بالقول ! ..
- حبيبتي ، هل تريدين مني كلاما فقط؟ 
- ليه انتا ما بتحبني؟ 
- بحبك وكتير ، بس بدي تشوفي حبي فعل ، ما بحب احكي كتير أنا . 
- كيف؟ 
 - يعني لما تشوفيني ع باب داركم جاي اطلبك ، وقتها رح تعرفي اني بحبك ، وحتى كلمة بحبك قليلة بحقك ..
صمتت سارحة تفكر ، لم يدر بماذا فكرت ، ولا هي اجابته على ما قاله لها ، وهذا ما ازعجه ، فهو لا يريد منها أن تشبعه كلاما ، فهو لا يحي كثرة الكلام أصلا ، ولكن توقع منها أن تقول أي شيء يزيده اصرارا على ما قال ، أو يشجعه على ذلك ، أو على الأقل توقع منها عبارة "ان شاء الله ، الله كريم" قطعه عن تفكيره ذاك قولها له : 
 - كيف قضيت يومك اليوم؟ .
ترى هل يحدثها عن احوالها بعد حديثهم ذاك أم بعده ، أم هل يحدثها عن احواله قبل تغييرها للموضوع أم بعده ، ترى هل يقول لها ما ازعجه ، بأنها لم تلق اهتماما لأمر يحلم به أن يجتمع هو وهي تحت سقف واحد ، أم هو مجرد موقف عابر لا يجب أن يتم الوقوف عليه ....
اختصر على نفسه تلك الحيرة واكتفى بالإجابة : 
 - الحمدلله كان تمام .....
*******************************************
((2))

في ذات صباح جاءته مكالمة هاتفية من مديره تفيده بأنه تم عزله من وظيفته ، في ذات اليوم ، أتاه صديقه ليقول له :
- ما تحزن يا صاحبي ، عندي خبر لازم أخبرك اياه .
- تراجع مديرنا عن قراره ؟ .
- لا ما تراجع ، شكلو فيه حدا متوصي فيك كتير بتقريره .
- معناته شو الخبر؟
- انتا صاحبي من زمان وما بدي اياك تزعل ، يعني لو مش انا اللي وافقت كان وافق حدا تاني .
- اه!!
- المدير قرر يعيني بدالك بالشغل .
 - مبروك .
كانت هي تعرف بما حل به ، وتعرف بأنه فقد وظيفة أحلامه ، تعرف بأنه يأكل ويشرب ليعيش فقط ، ولكنها كانت تريده دائما كما العادة ، يحدثها طوال الليل عن العشق والوله ، يمجّدها بأرق الكلمات وأعظمها ، وكان يفعل ذلك لسبب واحد فقط أنه "يحبها" .
بعد أسبوع اكتشف بأنه تمت خيانته على يد صديق عمره وعمله ، ذلك الصديق الذي خانه مرتين ، الأولى عندما طعنه في ظهره عند مديره في العمل ، والثانية عندما أتاه يخفف عنه حزنه بنفاق واضح خلفه فرح عارم فاضح .
كان يومها في حالة من الموت البطيء وجعاً ، ليس فيه شيء طبيعي ، يقف بعيدا عن الضحك ، وعلى هاوية البكاء ، لا هو قادرُ على الضحك ولا هو قادر على البكاء ، كان يريد أن يصرخ ، أن يكسر كل شيء حوله ، أن يتحدث عما بداخله ، كان يعرف بأنها لا تحب ما تسميه "نكد" ، لذلك كان يتجنب الحديث عن ألمه عند محادثته لها ، ولكنه قرر أخيراً الحديث معها في وجعه .
كان يريد أن يحدثها عن كل ما يؤلمه كما يحدثها عن كل ما يفرحه ، فالفرح والوجع كلاهما سواء ، كلاهما يجعلان من الشخص محتاجاً للكلام أو ما نسميه "فضفضة" ، وهي الإنسانة الوحيدة التي ستحتويه بفرحه وألمه ، ليس لشيء سوى أنه أعطاها قلبه قبل أن يعطيها ثقته .
*******************************************
((3))

كانا يمشيان في إحدى شوارع مدينتهم الواسعة ، تحدثا بكل المواضيع التي تعشق الحديث فيها ، حتى تنهد عميقاً وقال لها :
- بتعرفي شغلة !! .. انا تعبان كتير .
- ليه حبيبي من شو؟
 - مخنوق .. خلال أسبوع واحد ، خسرت وظيفتي ، وصديق طفولتي ......


جلسا على أحد المقاعد العامة ، وأسهب في حديثه ، تحدث كثيراً ، وكثيراً ، تحدث حتى شعر بأنه سيبكي ، يريد أن يبكي ليس بسبب أوجاعه ولا همومه ولا حتى بأنه يكاد يموت ، يريد أن يبكي لأنه يراها تعلق أنظارها بكل شيء على الطريق ، منشغلة عنه وعن حديثه وعن قلبه الذي كان في أمسّ الحاجة إليها ، كان هو يتكلم ، وهي تفحص السيارات التي تعبر الشارع ، وإشارة المرور ، حتى أنها قاطعته لتقول :
 - شوف شوف هاد قطع اشارة المرور وهي حمرا ..


صمت برهة ،ثم أكمل حديثه ، ورآها تستكمل جولتها الاستطلاعية في المكان ، تفحصت بائع العطور ، والشرطي الذي يقف عند مفرق الطرق ، وكل المشاة الذين يعبرون الطريق جيئة وذهاباً ، وأخيراً قالت بشيء من العجلة :
 - طيب حبيبي ، ما تزعل حالك ، كلو عادي وما بستحق تزعل حالك عشانو .


عرف من كلماتها تلك بأنها تقول له أن الحوار انتهى وأن عليها الذهاب ، نهضا عن ذلك المقعد ، وأوصلها لأول منطقتهم ثم رحل عنها إلى منزله ، إلى غرفته ، ليجلس وحده ، وتمارس آلامه ساديتها عليه ، وتجعل منه إنساناً يتحطم أكثر فأكثر ..

كان يريدها أن تفهم بأن الحب ليس مجرد اثنين يهيمان طوال الليل في حبهما ، وكلامهما الرقيق الذي ينساب لقلبيهما كما ينساب النسيم الربيعي إلى مسامنا ، ليعطينا مزيداً من الراحة والاسترخاء ، الكلام في الحب رائع ، ولكنه ليس كل شيء ، في الحب قد نتحدث أيضاً عن الهموم ، أي هموم تثقل كاهل أحد الأطراف ، ويريد من قلب حبيبه ملاذاً له يخفف عنه ألم تلك الأوجاع .

كان يريدها أن تعرف بأنها زادته ألماً بما تقوم به ، فقد كان يتوقع منها الإحساس به ، ولكنها لم تشعر بوجعه ، ولا حتى أعطته آذاناً صاغية لسماع استغاثات روحه ، كان يريدها أن تعرف بأنه لا يريد حبّاً -كلماتياً- محصوراً في مدة وجودهما معاً أو حديثهما معاً ، بل يريد حبّاً يذهب بروحه بعيداً إلى فضاء الراحة ، وتظل جوارحه ثملةً بإحساسها معه ، حتى وإن غابت عنه كلماتها .
*******************************************
((4))
كان يوما عاديا يقتله بروتينه المعتاد ، استيقظ صباحا ، تناول فطوره ، وذهب للشارع ، كي يتصيد عملا ، أي عمل بدلا من عمله الذي سرق منه ، كان دائما ما يفعل ذلك قبل أن يعمل في تلك الشركة ، وها هو بعد طرده منها يعود لذلك ، يسافر في الشوارع ، يقف في مركز المدينة مع آخرين ، ينتظرون صاحب عمل يريد عمالا للعمل لديه ، يقف ساعات وربما يحالفه الحظ في ذلك اليوم وربما لا ..
كان يحب قصيدة اسمها "في الانتظار" لمحمود درويش ، يقول في نهايتها :
فان الموت يعشق فجأة، مثلي،
 وإن الموت، مثلي، لا يحب الانتظار
فهو هكذا بطبيعته شخص لا يحب الانتظار ، وها هي الظروف ومن ملكت قلبه يجبرونه على ذلك مستغلين حاجته لهم ....
كانت هي الأخرى بارعة في جعله ينتظر ، ينتظرها لتأتي ، ينتظرها لتذهب ، ينتظرها لتتكلم ، ينتظرها لتصمت ، ينتظرها بالساعات والأيام ، وربما هي الأخرى كما عمله ، قد تأتي ، وقد لا تأتي .
كان دائماً يضع كل المبررات ليبرر لها غيابها ، وحينما تأتي بعد يوم ، يتوقع منها أن تثبت له تلك المبررات ، فتثبت له شيئاً واحداً فقط ((غباءه)) .
تأتي لتقول له :
- آسفة .. مبارح نمت وما قدرت آجي .
أو
- آسفة .. لقيت برنامج روعة ع التلفزيون ، وتابعته ، وما قدرت آجي .
أو
- آسفة .. ما كنت بمزاج مناسب ، وما قدرت آجي .
 أو ... أو ... أو ....
كان لا يحب الأعذار أبدا ، فالأعذار في نظره مجرد مفتاح لتكرار سبب العذر بعد الاعتذار ، ليتكرر نفس الاعتذار على نفس السبب مرة ، واثنتين ، وثلاث .. وأكثر .
في أعذارها تلك كان يرى نفسه قد وضع على هامش النوم والبرامج التلفزيونية ، وأصبح رهناً لأمزجتها المتقلبة ، أو أصبح أمراً ثانوياً يتم اللجوء إليه في وقت الفراغ لا أكثر .
ترى هل يقول لها بأنه ليس ساعة يد تنظر إليها فقط لكي تعرف الوقت ، هل يقول لها بأنه ليس معطفاً تلبسه عند إحساسها بالبرد وتخلعه عنها فور شعورها بالدفء ، وتتركه على الأريكة ليموت برداً بعيداً عن أي مصدر للحرارة .
يتبادر إلى عقله دائما كلمات صاغها قلبه ، ويرغب لو يعاتبها بها ، يود لو يقول لها :
الحب يا عزيزتي
ليس مجرد كلام يُقال
الحب إحساس ولهفة
 الحب عهود وأفعال
هل يعاتبها أم يظل صامتاً ، ويعود للوقوف على قارعة قلبها ، ينتظر حاجتها له ، ليكون إلى جانبها "وقت الطلب" .
كان دائماً ما يعقد العزم على أن يرحل ، ويذيقها طعم الانتظار الأبدي ، وما به من مرارة علقمية ، ولكنه يتردد وسرعان ما يتراجع عن قراره ذاك . ويثمر انتظاره عند مجيئها بكلمات يلفظها بأسف ، ويتمنى لو أن تشعر بها :
 - بسيطة مش مشكلة ، المهم انك بخير ......
*******************************************
((5))

في ليلة من الليالي ، أتته هو ورفاقه الأوامر ، بأن كونوا على استعداد لأي شيء في أي لحظة ، لم يكن يدري لا هو ولا رفاقه سبب تلك الأوامر ، كون الوضع هادئ وليس هناك ما ينذر لهجوم محتمل للصهاينة ، ومع ذلك فقد تجهز ورفاقه لهجوم محتمل على مدينتهم .
وككل الفلسطينيين المستعدين دوماً لأي شيء ، توشح كوفيته ، وحمل رشاشه الذي لم يستخدمه منذ سنوات ، منذ أن دخلت القضية حالة من سبات المفاوضات المشتتة المبهمة ، منذ أن أصبح يطلق عليه هو وأقرانه تنظيمياً "خلايا نائمة" ، ذهب وودع أمه وأبيه واخوته ، وتلثم بكوفيته وخرج من المنزل وسط دموع أمه الصابرة .
كان يرغب بالمرور على غاليته يودعها ، فهو لا يعرف ماذا ينتظره ، ولكنه ظل متوجها إلى ثغور المدينة ليرابط فيها بقية الليل ، فسواء ودعها أو لم يودعها ، فهي لن تلحظ غيابه ، كما لا تلحظ حضوره 
كانت ليلة صافية متوسطة البرودة ، نجومها تتلألأ حول قمرها المضيء ، وكأنها تقيم حفلا من نوع ما ، لأجل شيء ما .
وكعادتها لم تفارق مخيلته للحظة ، رآها في تلك النجوم ، في القمر ، في سواد الليل ، في الصخور التي يرابط خلفها ، حتى في بندقيته .
وتخيل لو أنه ذهب ليقول لها بأن وطنه ناداه وهو ذاهب ليلبي النداء ، ترى هل كانت سترجوه ألا يذهب؟ ، أم ستسلّم من البداية بأنه سيذهب سواء قبلت أو رفضت؟ .
وهو .. هل سيأخذ برأيها إذا قالت له ألا يذهب خوفاً عليه ، هل كان سيضعف أمام دموعها ويعدل عن الذهاب للمجهول؟ .
لقد كان دائما يحمل فلسطين في قلبه ، ويضعها فوق كل من فيه ، كان على قناعة تامة بأن فلسطين التي وُلد على أرضها ، تربى في أحضانها ، لعب في حاراتها ، هي التي تستحق كل الحب والوفاء ، واذا تعارض حبه وولائه لوطنه ، مع حبه او حتى عشقه العظيم لإحداهن ، فهو سيقدم عشقه الوحشي لوطنه ، ويُسقط غيره من انواع الحب وان كان حبه لوالديه ، وهم أقرب الناس إليه .
-معقول اليوم نستشهد؟ .
سؤال تبادر إلى ذهنه فجأة ، ثم إلى لسانه مباشرة ، وطرحه على مسامع رفاقه . لم يفاجئه رفيقه "مجد" ، عندما قال له :
- ليش يعني خايف؟ .
- لأ ، بس مجرد سؤال .
 - ويا سيدي ، نستشهد ، فدا هالوطن ، فدا امي وامك وكل اللي بيحبونا .

هكذا هو الفلسطيني ، على استعداد أن يبذل روحه فداءاً لوطنه ، والتي ستكون أيضا فداءاً لكل شعبه البطل ، فدائما ما يكون الفدائيين هم الحاجز بين حياة شعبهم ومماتهم ، لذلك نراهم يقاتلون بشراسة ، مستعدين لتفجير أنفسهم دفاعا عن الوطن ، فأهلهم وأحبائهم باقون ما بقي هذا الوطن .
كانوا في تلك الليلة مرابطين في جهة من جهات المدينة ، كانوا خمسة عشر مقاتل ، خمسة عشر شخص قد عقدوا اتفاقا مع القدر وقعوه بعزيمتهم وشهدت عليه إرادتهم ، مضمونه موافقتهم على أن يكونوا مشاريع شهداء ، في اشتباك أو توغل أو غارة مفاجئة ...........

*******************************************
((6))

كانت ليلة يحتفل فيها الصمت مع الظلام بتناغم كئيب ، يجعل من مهمة المرابطين أخطر ، فالصمت يصمّ آذانهم ، ليعطيهم حالة من اليقظة الدائمة الإجبارية ، في انتظار ما سيخرق هذا الهدوء ، والظلام يعمي أبصارهم فيجعل من مهتمهم أصعب ..
ومع كل هذا ، لم تجد الكآبة طريقاً لتلامس قلبه ورفاقه أو تحطّ قيد أنملة من عزيمتهم ، فقد أصبحوا على قناعة تامة بأنهم هناك لحماية أهلهم وأحبتهم ، وليس لمجرد تنفيذ أوامر .
وانتصف الليل ..
 ذهب لمكان ليس ببعيد عنهم ، وسرح بتفكيره ..

الفلسطيني محكوم بالظروف ، في أوقات الهدوء هو لمن حوله ، وفي أوقات الأزمات هو لا يملك نفسه ، فهاهم من حوله قد تركوا كل من لهم وأتوا ، تركوا آبائهم ، أمهاتهم ، زوجاتهم ، أولادهم ، كما هو ترك حبيبته وأتى .
على ذكرها تذكر بأنه كان أحياناً يتحدث معها عن وضع القضية المستفز ، الذي يمر بمرحلة من الاستهزاء بمطالب هذا الشعب الصامد ، بل واستهتار في أرواح شبابه وأطفاله . كان يرى صور الأطفال والنساء يستشهدون تحت أنظار كاميرات التلفزة المحلية والعالمية ، لتثير هذه الصور مشاعر الملايين حول العالم ، أعرابه وأعاجمه ، ولا تثير مشاعر حاكم لدولة واحدة ، كان دائما يتسائل ، ترى هل حكام الدول مخلوقات تختلف عن أفراد الشعب الذي تحكمه؟ ، أم أن الحاكم يعطي ضميره إبرة مخدرة ، لتخدره طيلة فترة حكمه ، والتي غالباً ما تكون عند العرب طيلة فترة حياته؟ .
كان لا يعرف سبب الحديث معها في مثل هذه المواضيع ، ربما لكي يجعلها تعرف ما الذي يحدث حولها كونها فلسطينية مثله ، وفلسطين وطنها كما هو وطنه ، أو ربما لكي يهدّئ من ضجيج روحه التي تضج بكل الأحاسيس بعد كل مجزرة .. كان يتحدث إليها في تلك الأمور مع معرفته المسبقة بما ستقوله ، سواء عندما ينتهي من حديثه ، أو مقاطعة له :
 - حبيبي .. ليش مقلق حالك انتا؟ .. شو جاييك من هالحكي غير وجع الراس؟

بالتأكيد كان هذا الحديث عديم الأهمية بالنسبة لها ، كونه ليس من "هواياتها" كما تقول دائماً ، ولكنها ربما كانت على حق بأنه مؤلم له ، ولكنه لا يسبب له ألماً في الرأس ، إنما ألماً في القلب ، ألماً في العروبة التي داسها الصهاينة ، العروبة التي عجزت عن تحرير شبر واحد من أرض يتم اغتصابها كل يوم منذ ستون عاماً .
كم كان يتمنى أن تفهم بأن الذي استشهد بالأمس هو بشر ، من لحم ودم ومشاعر ، له أهل وأحباب وأصدقاء ، كان يتمنى لو أنها تفهم بأن الذي سيستشهد اليوم أو غداً ربما يكون أخاها أو أخاه ، أو يمكن أن يكون هو .. أو حتى هي ...
تبادرت إلى لسانه كلمات ربما صاغها له الموقف ، أو ألمه على ما وصل إليه شعبه ::
دون جريمة يرتكبها
تصدر في حقه الإدانه
مذنب هو دون اهتمام
لعمره ، لجنسه ، أو الديانة
يكفي الاسم "فلسطيني" 
ليكون ضحية قذيفة غادرة
 جبانة

*******************************************
((7))

كان الجميع لا يدري ما ينتظره في نهاية هذه الليلة التي لا تريد أن تأتي ، فقد كانت ليلتهم طويلة ، قلوبهم معلقة بمن تركوا خلفهم ، وأبصارهم مركزة على حدود المدينة ..
كان حائراً وتائهاً في ذلك المكان ، مبعثر المشاعر والأحاسيس ، كان يطرح تساؤل دائماً على نفسه ، هل تفكيره فيها طبيعي في هذه الأثناء ؟ ، أم أن في تفكيره فيها في مثل ظروفه الحالية ضرباً من الجنون؟ ، ولكن ما الفرق بين جنون موقفه وجنونها هي أصلا ؟ .
كان جنونها الطفولي في البداية يروق له ، يحبه مع أنه يؤلمه أحياناً ، ولكن بعدها تطورت طفولتها تلك إلى شيء من عدم الاكتراث لأي أحد ، وهو أولهم ، كانت ترميه بأفعال تخترق قلبه ، خاصة تلك الأفعال التي لا تقتصر فيها على استفزازه فحسب ، بل استفزازه ، وضربه في مقتل .
كان جنونها ذاك يتمادى أكثر وأكثر ، ليخرج من مستوى العفوية الطفولية ، ويدخل مرحلة الإصرار على الخطأ غير المقصود -ربما- ، حتى وإن كان إصرارها ذلك على حسابه هو ..
تذكر وعودها غير النافذة دائما ، في كل الظروف والاحوال وأحياناً على نفس الأمور ، تنقض وعده ، يناقشها ، فيتبين له أنها تعرف بأنها نقضت وعدا ، وتعرف ومقتنعة تماماً بأنها أخطأت ، وأنه إذا قام بنفس الفعل سيؤلمها ذلك ، حتى أنها لم تترك له مبرر نسيانها للوعد على الاقل ، فتقول له :
 - اه بتذكر مزبوط حكيتلك هيك ووعدتك ، بس مش عارفة خلص "عادي" ....
تقول له كلمة "عادي" تلك دائما ، في كل مرة تنقض وعداً في اليوم التالي من عمره ، ولكن عند قيامه بنفس الفعل تنقلب الأمور ليصبح الأمر غير "عادي" ، تعده مرة أخرى على عدم تكراره ، وتعود لكلمة الـ"عادي" ، وهكذا ابتلعت دائرة الـ"عادي" المفرغة رجلاً أصبح يرى نفسه هو الآخر أقل من الـ"عادي" ..
قطعه عن تلك الدوامة المتناقضة ، والمشاعر المتضاربة ، صوت على بعده اخترق كل الهدوء من حوله ، صوت يعرفه جيداً ، صوت لشيء كان يمر منذ سنوات ليست ببعيدة ، بجانبه وهو على الحواجز العسكرية الصهيونية ، كان صوت دبابة ، وليس دبابة واحدة ، بل قطيع من الدبابات التي يبدو من سرعة دنو صوتها بأنها متخمة بالذخيرة ، وجائعة للموت ............


*******************************************
((8))
كانت تجلس وحيدة تلك الليلة ، تفتقده فيها أو تفتقد فيها كلامه الذي تعشقه من كلام حب وهيام ، وكان قد رحل وهي تعرف بأنه غير راضٍ أبداً عن أساليبها في التعامل معه ، فهي تعرف جيداً بأنه يموت وجعاً منها ، وتعرف جيداً بأن أساليبها هذه إذا ما عاملها هو بها لن تكون سعيدة أبداً بها ، تعرف جيداً بأنه لا يعاملها بها لأنه لا يريد أن يجرح قلبها ، كل ذلك تعرفه جيداً ، ولكنها لا تدري لماذا تفعل كل هذا ، كانت تسمع من الجميع بأن الحب اهتمام ، وأن الاهتمام لا يطلب ، بل يكون بفطرة العاشق والعاشقة ، ولكنها غير قادرة عليه ، في كل مرة لا تستطيع قول ذلك له ، ولكنها بالفعل غير قادرة على ذلك ، لأسباب لا تعرفها ، ربما هو دلال زائد تحوّل إلى أنانية جنونية ، أو ... هل يعقل بأنها لا تحبه؟ ، أو أن كل ما تشعره تجاهه هو ربما نوع من حب الأخت لأخيها ، أو حب الصديقة لصديقها؟ .
كانت واعية لكل شيء تفعله ، ولكنها لا تستطيع إيقاف نفسها عن فعله ، حتى عندما تراه في قمة اختناقه وألمه ، فإنها لا تحيد عن أساليبها التي تراها هي نفسها بأنه من غير المنطق أن تصدر من حبيبة بحق حبيبها ، وخصوصا بأن ذلك الحبيب أشعل لها قلبه حباً ، وملّكها حواسه عشقاً .
كانت تعرف تماماً بأنه لا يستطيع الاستغناء عنها ، وأنه يحبها ربما أكثر من مقدار حبها له ، بل من المؤكد ذلك ، فكل شيء فيه يفضح ذلك ، كلامه ، اهتمامه ، خوفه وغيرته عليها ، لذلك وكونها تعرف بأنه لا يستطيع فراقها ، فقد كانت دائماً تمنع نفسها من اقتراح ذلك الاقتراح الذي سينهي ألمه ، وهو أن ينفصلا ، وأن يسلك كل واحد منهم السبيل الذي يجعله مرتاحاً ، لك تكن تدري ما الذي يمنعها من ذلك ، خوفها من خسارة إنسان لن يحبها أي شخص آخر بمقدار حبه لها ، أو ربما كانت "تشفق" عليه ، ولا تريد برحيلها أن تجرحه جرحاً أكبر من جرحه في وجودها .
ولكنه الحل الوحيد .. رحيلها هو الحل الوحيد لوضع حدا لألمه ، سيتألم بعدها ربما أياماً وربما أشهر ، ولكن من المؤكد أن يجد الإنسانة التي تستحق منه كل ذلك الحب ، فهي على يقين بأنها لا تستحقه ، ولا تستحق منه كل ذلك الحب والوفاء ، لذلك أخذت قرارها بإنهاء العلاقة بينهما ، غداً صباحاً سنتهي كل شيء ، ليرتاح هو ، وترتاح هي ، لعل إحساسها بالذنب تجاهه سيزول ولو بعد فترة .
وبدأ صوت الرصاص البعيد يشق مسامعها ، ترى هل هو من هذا الاتجاه أم من ذاك؟ ، أطرقت السمع قليلا فعرفت بأنه قادم من جميع الاتجاهات ، ومن ضمنها الاتجاه الذي يرابط فيه هو ....
كانت المعركة تشتد أكثر وأكثر ، وأهل المدينة ينتظرون مع علمهم المسبق بنتيجة تلك المعركة ، عندما انقطعت الاتصالات بين المجموعات الموزعة حول المدينة ، وسماع صوت رصاص الحرية ، تقابله قذائف الظلم والقهر ، كل ذلك وسط تكبيرات شيوخ المدينة ، واستعداد باقي شبان المدينة للمواجهة التي ستمدد إلى شوارع مدينتهم .
بدأ صوت رصاص الاسلحة الرشاشة الخفيفة يقل ، ويطغى عليه صوت قذائف بني صهيون .
وصل أحد المقاتلين إلى المدينة سيراً على الأقدام ، وقد اخترقت ذراعه شظيه ، كان على نفس الجبهة التي يرابط فيها "هو" ، جاء إلى أهل المدينة بأنباء تفيدهم ولكنها ستؤلمهم في نفس الوقت ، قال لهم بأن الاقتحام من جهته يتم بواسطة 3 دبابات ، وأن آخر اتصال بينهم وبين رفاقهم على المحاور الأخرى يفيد بنفس المعلومة ، ونقل لهم معلومات عن الطرق التي ستسير بها تلك الدبابات ، والأماكن التي يجب أن يتم وضع الألغام فيها ، وكذلك نقل لهم بأن كل من على جبهته قد استشهدوا عدا اثنان ، اقترحوا عليه أن يرجع للمدينة كونه مصاباً ناقلاً لأهل المدينة المعلومات ، وهم سيقوموا ما بوسعهم لتأخير الدبابات القادمة حتى يتسنى لشبان المدينة تجهيز الاستقبال المزين بالألغام .... كان من بقي هم "مجد" و "هو" .
توقف صوت الرصاص والقذائف ، وبدأ صوت الدبابات بالدنو أكثر فأكثر ، والجميع متأهب ليرى نتيجة تلك الألغام التي وصلت للمقاتلين حديثاً ممن حولهم من "دولة" داعمة لقضيتهم .
في صباح اليوم التالي كانت المدينة قد فازت في أولى جولاتها ، والألغام أجبرت الدبابات التي تبقت على الانسحاب ، كان بنظر أهل المدينة انتصار بطعم مر ، فقد أجبروا الدبابات على الانسحاب ولكنهم خسروا أرواحاً لخيرة شباب المدينة ، الذين واروهم ثرى وطنهم في ظهيرة يوم "الانتصار" ، وكذلك كانوا يترقبون الجولة القادمة وما يخبئه لهم محتل غادر .
في مساء ذلك اليوم ، حمل الشاب الذي رجع إلى المدينة ورقة إليها ، كانت قصاصة ورق معطرة بعبير البارود ، مكتوبة فيها رسالة على عجل ، كانت منه إليها ، مكتوب فيها :
 "إذا قرأتِ هذه الرسالة فمن المؤكد أن استشهادي كان ذو نتيجة -على الأقل حتى الآن- ، لم تغيبي عن بالي للحظة واحدة ، فقد كنت حاضرة حولي ، سامحيني إن فهمتكِ يوماً على خطأ ، ولا تبكيني فأنا الآن ربما أراكي ، وإن بكيتِ لن أكون مرتاحاً لذلك أبداً .... أحبكِ فِعلاً "،،،،،،،
*****************************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الفيل والإدارة // محمد عمار ياسين

يحكى أن فيلاً تولّى إدارة الغابة ، ثم جمع حوله الجميع وعلى رأسهم الجرذان ، وألقى فيهم خطاباً خالداً رناناً ، قائلاً : أنا الأكثر...